تعتبر قضية كمال المطماطي من أشهر القضايا التي تجوب أروقة المحاكم التونسية في السنوات الأخيرة نظرا لبشاعة الانتهاكات والوقائع والشهادات التي تم تقديمها أمام الدائرة الجنائية المختصة في العدالة الانتقالية. قضيّة تعود يوم الثلاثاء 25 ماي 2021 أمام أنظار الدائرة المختصة في العدالة الانتقالية بالمحكمة الابتدائية بقابس بعد ثلاثة سنوات من تاريخ أول جلسة للنظر فيها ومسار طويل من الجلسات التي امتدّت طيلة هذه الفترة.
تم اقتياد الضحيّة كمال المطماطي، موظف تونسي بشركة الكهرباء والغاز بقابس، من قبل أعوان الأمن وهو بصدد مباشرته لعمله بمقرّ الشركة الوطنية للكهرباء والغاز يوم 7 أكتوبر 1991. وبعد إعتقاله تم الاحتفاظ به بمنطقة الأمن العمومي بقابس أين يتم التحقيق مع المعارضين للنظام آنذاك بصفة عامة.
وأفادت جميع الشهادات أنه تعرض يومها لجميع أشكال التعذيب الممكنة مما تسبب في مفارقته الحياة في نفس الليلة التي تم اعتقاله فيها، أي تقريبا بعد 8 ساعات من الاعتقال.
وما يلفت الانتباه في هذه القضية لا يعود فقط لكون الضحيّة توفيت جراء التعذيب الوحشي وإنما كذلك لاختفاء جثّة الفقيد ليومنا هذا. حيث صرّحت عائلة الفقيد خلال جلسات القضية أمام المحكمة أن العائلة مازالت متمسكة بالحق في الدفن بعد مصادرة حق الضحية في الحياة.
وحسب الشهادات المقدّمة، تم دفن الفقيد دون علم عائلته التي ظلت تجهل الحقيقة وواصلت البحث عنه دون أية معلومات قبل أن يتم اعلامهم بوفاته سنة 2009، وهي لا تزال لليوم تجهل مكان دفن جثمانه. وقد أكد نائب رئيس البرلمان السابق عبد الفتاح مورو أن جهة أمنية عليا أعلمته أن جثة المطماطي تم رميها في خرسانة جسر، لتكون بذلك من أبشع القضايا التي تورط فيها النظام السابق.
تجب الإشارة أن الاختفاء القسري يعدّ من أبشع الجرائم على المستوى الدولي، كما جاء في الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري المصادق عليها من قبل الجمهورية التونسية في 29 جوان 2011، التي تنصّ في المادة 5: “تشكّل جريمة الاختفاء القسري العامة أو الممنهجة جريمة ضد الإنسانية كما تم تعريفها في القانون الدولي المنطبق وتستتبع العواقب المنصوص عليها في ذلك القانون.” كذلك هو الحال بالنسبة لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية الذي صادقت عليه الجمهورية التونسية في 14 ماي 2011 والذي يعتبر القتل العمد والتعذيب الناجم عنه الموت والاختفاء القسري جرائم ضد الإنسانية متى حصلت في إطار هجوم واسع النطاق أو منهجي موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين.
وقد استمعت هيئة الحقيقة والكرامة لحيثيات القضية منذ 2016 في جلسات الاستماع السرّية والعلنيّة، ثم أحالت الهيئة ملف الضحية على أنظار المحكمة الابتدائية بقابس ليكون أول ملف تحيله على الدوائر القضائية المتخصصة في العدالة الانتقالية في ماي 2018، وأول قضية انطلقت هاته الدوائر في النظر فيها. وتوالت جلسات الدائرة القضائية المتخصصة بابتدائية قابس، وانعقدت آخرها يوم 28 جانفي 2020.
قامت المحكمة بالاستماع لعدة شهود خلال الجلسات المختلفة، وتغيّب كل المنسوب إليهم الانتهاكات وعددهم اثني عشر عن الجلسات باستثناء ضابط الامن السابق السيد س ز الذي تم الاستماع اليه خلال جلسة 28 جانفي 2020، حيث كان رئيس الفرقة المختصّة آنذاك. تجدر الإشارة أن آخر رتبة تقلدها السيد س ز هي محافظ شرطة أول، وقد تم عزله سنة 2001 ليعود بعد 2011 لمباشرة عمله وتقلّد منصب رئيس منطقة باردو.
وصرّح س ز في هذه الجلسة أنه لم يقم بأي انتهاك ولم يشارك في أي عملية تعذيب فيما يخص قضية كمال المطماطي، وعند سؤاله حول عملية الإيقاف، أفاد المتهم أنه في تلك الفترة كان من الممكن إيقاف أي شخص حتى بدون موجب قانوني. كما أكد أنه تلقى اتصال هاتفي حوالي منتصف الليل من أحد الأمنيين ليعلمه أن كمال المطماطي في حالة حرجة، وعند وصوله لمركز الأمن كان كمال المطماطي قد توفي، وتم نقل جثته لمستشفى قوات الأمن الداخلي بالمرسى بالعاصمة.
وأفاد المنسوب اليه الانتهاك أنه قد أمر بعد ذلك بفتح بحث إداري للكشف عن وقائع الحادثة وتحديد المسؤوليات، إلا أن السيد ح ع طلب منه إيقاف البحث، وعن سؤال رئيس الجلسة عن مخرجات البحث الإداري، أفاد أن من قام بتعذيبه هم أ بن ي و رش وقتل على يد رئيس خلية الأبحاث الخاصّة السيد ع ب الذي وجّه “الضربة القاضية”.
ونفى السيد س ز التهم المنسوبة اليه من إعطاء تعليمات لتعذيب كمال المطماطي وشبهات الرشوة والفساد، حيث صرّح قائلا “التعليمات الصادرة عنى لا تتجاوز حرمان الموقوف من النوم لمدّة أربع وعشرين ساعة،” وأن “المتهمين كانوا يقومون بتعليق وجلد وصلب كمال المطماطي ولم تكن لي القدرة الوظيفية ولا القانونية لإيقاف مثل هذه الممارسات، حيث كانت الفرق الأمنية تتسابق فيما بينها لإيقاف المنتمين للإتجاه الإسلامي،” كما نفى مسؤوليته عن الخلية التي قامت بالتعذيب.
وفي رده عن سؤال مكان جثة الضحية، نفى المنسوب له الانتهاك س ز أي علم بهذا الشأن، وأنه ليس لديه أي معلومة مؤكدة حول مكان دفنه وأنه لا يستبعد دفنها بأحد المقابر ولم يؤكد أو ينفي حقيقة دفنه بأحد الجسور. وعبّر المنسوب اليه الانتهاك عن شعوره بالذنب لأنه لم يستطع إنقاذ الضحية كمال المطماطي كما اعتذر لعائلات الضحايا ولأي شخص تضرر من الفرق الأمنية.
توجهت قريبة الضحية بالسؤال للمتهم س ز حول حقيقة حيازة كمال المطماطي لأسلحة، فأجاب المنسوب له الانتهاك أنه لإعتبارات أخلاقية وبعد وفاة كمال المطماطي لم يعطي التعليمات لتفتيش منزله، وأكد أن المعلومات حول تحوز كمال المطماطي بسلاح ليس لها أساس من الصحة وهي “أكذوبة” صادرة عن الإدارة.
وبسؤال المنسوب له الانتهاك عن بعض الأشخاص كالمكلفين بالأبحاث وهم السيد م ق و السيد م ن (المعروف بكنية “الحلاّس”)، أفاد أنهم على علم بمكان دفنه. وقال إنه سلّم وكيل الجمهورية آنذاك ملف البحث الإداري المتعلق بوفاة كمال المطماطي الذي احتوى كل المعلومات اللازمة. وفي ردّه عن سؤال أحد المحامين عن الضحية حول ما تضمن التقرير الأخير لحادثة كمال المطماطي، أفاد المنسوب له الانتهاك السيد س ز أن كل الموجودين وقتها يعلمون بالوفاة الناجمة عن التعذيب ولكن رسميا لم يتم ذكر أسباب الوفاة. وقد وضّح المتّهم تفاصيل نقل الجثة حيث تم إخراجها على الأيدي وسط
“زاورة”، لكنه أكد أنه لم يكن موجود ساعتها وأن وثيقة “الترخيص بمهمة” نصّت على “إذن بتنقل أعوان من المصلحة المختصة لتونس” فقط دون تفاصيل.
وعند الاستماع للشهود، تعرّفوا على المنسوب اليه الانتهاك وأكّدوا أنه تورّط في عمليات تعذيب، حيث صرّح السيد منجي بالجيلاني بن عمر بن عبيد أن السيد س ز هدّده للإقرار بانتمائه للاتجاه الإسلامي، وانهال عليه بالضرب والشتم، وهدّده أن يلاقي نفس مصير كمال المطماطي إن لم يعترف. وقد أنكر س.ز هذه التهم متحجّجا بنقله للعمل بجندوبة منذ جويلية 1992، إلا أن الشاهد رد قائلا: “حتى إن تم نقله لجندوبة فهذا لا يمنع رجوعه لممارسة مهامه، والحال أنه كان يأتي لضربهم أشخاص مختلفون وحتى ملثمون”.
كما أفاد الشاهد بشير بن محمد الطرهوني أنه يعرف المنسوب له الإنتهاك السيد س ز تمام المعرفة وصرّح قائلا “خلال إيقافي من طرف فرقة المصلحة المختصة تناوب الأعوان على ضربي بالواحد، وانهالوا عليّ بالضرب بالأسلاك وكان جسدي شديد الزرقة […] من شدّة التعذيب قمت بضرب رأسي على قارورة ماء بلور ومسكت قطعة زجاج لأقطع عنقي من شدة الضرب فتدخل شخصيا س ز لإيقاف التعذيب”.
وتوجه بشير الطرهوني لس ز بالكلام قائلا:” كنت مدير المصالح المختصة وكنت تأمر بأوامرك وتسخر منا وتهيننا وكنا نغتصب، وكان جميع الأعوان الذين يقومون بتعذيبهم من ناحية التسلسل الوضيفي تحت س ز.” وحمّل الشاهد بشير الطرهوني المسؤولية لس ز بوصفه رئيس الفرقة المختصة. توجهت الأستاذة منية بوعلي بسؤال للشاهد عن طريق المحكمة، مفاده إن سمع صوت المتهم الماثل أمام المحكمة س ز عند وصول كمال المطماطي لمكان الإيقاف، وأجاب الشاهد أنه من الصعب سماع صوت واضح أمام الارتباك والظلام آنذاك، لكن أكّد أن المتهم س ز كان حينها في مكتبه.
اعترض س ز على الشاهد قائلا: “أنا مع محاسبة كل من تورط في التعذيب والقتل وليس من المعقول محاسبة رئيس الفرقة على تجاوزات الأعوان،” متناسيا المسؤولية الجزائية للفعل السلبي، وطلب المنسوب له الانتهاك من المحكمة رفع تحجير السفر عنه لزيارة ابنته في الخارج. رفض القاضي طلب رفع تحجير السفر للمنسوب لهم الانتهاك إثر اعتراض محامي الدفاع، وصرّح أنه سيتم إعادة إصدار بطاقات الجلب في حق كل من ع ب واستدعاء الشاهد حمزة ميلاد وكيل الجمهورية بقابس زمن الواقعة قبل أن ترفع الجلسة.
لا تزال عائلة الضحية كمال المطماطي متمسكة بكشف الحقيقة وخاصة معرفة مكان الجثة، لكن تبقى القضية كبقية الملفات متروكة في رفوف المحاكم لتزيد من حرقة عائلاتهم، ويبقى كذلك المشكل الأساسي في القضايا المنشورة أمام الدوائر المختصة للعدالة الانتقالية عدم تنفيذ بطاقات الجلب في حق المنسوب لهم الانتهاك. يتواصل بذلك نكران حق العائلات في معرفة الحقيقة ويتواصل الإحساس بالقهر خاصة عندما يشاهدون أمامهم جلاديهم في حالة سراح الذين فيهم من يباشر عمله حتى اليوم وفيهم كذلك من تمت ترقيتهم لمناصب أعلى في وزارة الداخلية أو غيرها.
للإطلاع على مداولات جلسات ملف “كمال المطماطي” أمام الدائرة الجنائية المختصة بقابس كاملة، اضغط على هذا الرّابط .